الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا» لِيُبَيِّنَ طَرِيقًا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ، وَيَتَسَلَّطُ بِهِ عَلَى قَتْلِ الْكَافِرِ مِنْهُمْ. وَرُوِيَ مِنْ وُجُوهٍ: أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَتْ جَانًا. فَأُرِيَتْ فِي الْمَنَامِ أَنَّ قَائِلًا يَقُولُ لَهَا: لَقَدْ قَتَلْتِ مُسْلِمًا. فَقَالَتْ: لَوْ كَانَ مُسْلِمًا لَمْ يَدْخُلْ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَعَلَيْكِ ثِيَابُكِ. فَأَصْبَحَتْ فَأَمَرَتْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَجُعِلَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: مَا دَخَلَ عَلَيْكِ إِلَّا وَأَنْتِ مُسْتَتِرَةٌ. فَتَصَدَّقَتْ وَأَعْتَقَتْ رِقَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ بَدْرٍ: الْجَانُّ مِنَ الْحَيَّاتِ الَّتِي نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِهَا هِيَ الَّتِي تَمْشِي، وَلَا تَلْتَوِي. وَعَنْ عَلْقَمَةَ نَحْوُهُ. ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ إِنْذَارِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ فَقَالَ: قَالَ مَالِكٌ: أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يُنْذَرُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ. وَقَالَهُ عِيسَى بْنُ دِينَارٍ:وَإِنْ ظَهَرَ فِي الْيَوْمِ مِرَارًا، وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى إِنْذَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَكُونَ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَقِيلَ: يَكْفِي ثَلَاثَ مِرَارٍ. لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلْيُؤْذِنْهُ ثَلَاثًا»، وَقَوْلُهُ «حَرِّجُوا عَلَيْهِ ثَلَاثًا» وَلِأَنَّ ثَلَاثًا لِلْعَدَدِ الْمُؤَنَّثِ، فَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ. وَقَوْلُ مَالِكٍ أَوْلَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ» وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ مُقَيِّدٌ لِتِلْكَ الْمُطْلَقَاتِ، وَيَحْمِلُ ثَلَاثًا عَلَى إِرَادَةِ لَيَالِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثِ، فَغَلَّبَ اللَّيْلَةَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي بَابِ التَّارِيخِ، فَإِنَّهَا تَغْلِبُ فِيهَا التَّأْنِيثُ. قَالَ مَالِكٌ: وَيَكْفِي فِي الْإِنْذَارِ أَنْ يَقُولَ: أُحَرِّجُ عَلَيْكَ بِاللَّهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَلَّا تَبْدُوا لَنَا، وَلَا تُؤْذُونَا. وَذَكَرَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ حَيَّاتُ الْبُيُوتِ فَقَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فِي مَسَاكِنِكُمْ فَقُولُوا: أَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَنْشُدُكُمْ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُمْ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُنَّ شَيْئًا بَعْدُ فَاقْتُلُوهُ. ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ حَكَى ابْنُ حَبِيبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يُقَالُ: «أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَّا تُؤْذُونَا، وَلَا تَظْهَرْنَ عَلَيْنَا» انْتَهَى كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ مُلَخَّصًا قَرِيبًا مِنْ لَفْظِهِ.قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: التَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الْحَيَّاتِ فِي الْبُيُوتِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كَالْحَيَّاتِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْفَيَافِي، وَأَنَّ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ لَا تُقْتَلُ إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ. وَأَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي عُمُومُ الْإِنْذَارِ فِي الْمَدِينَةِ، وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَابُدَّ مِنَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا تَكْفِي ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَتْ أَدِلَّةُ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ. وَأَنَّ الْأَبْتَرَ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ يُقْتَلَانِ فِي الْبُيُوتِ بِلَا إِنْذَارٍ. لِمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ بِلَفْظِ: فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: إِنَّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُنَّ يُرِيدُ عَوَامِرَ الْبُيُوتِ وَأُمِرَ بِقَتْلِ الْأَبْتَرِ وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي لُبَابَةَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرَ ذِي طُفْيَتَيْنِ، فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْوَلَدَ، وَيُذْهِبُ الْبَصَرَ فَاقْتُلُوهُ».وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ الْحَيَّاتِ وَإِنْذَارِ حَيَّاتِ الْبُيُوتِ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَغَيْرِهِمَا.قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثْنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَاقْتُلُوا ذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ. فَإِنَّهُمَا يَطْمِسَانِ الْبَصَرَ، وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيَّةً لِأَقْتُلَهَا فَنَادَانِي أَبُو لُبَابَةَ: لَا تَقْتُلْهَا. فَقُلْتُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَ بِقَتْلِ الْحَيَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّهُ نَهَى بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ، وَهِيَ الْعَوَامِرُ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةَ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَتَابَعَهُ يُونُسُ، وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَإِسْحَاقُ الْكَلْبِيُّ، وَالزُّبَيْدِيُّ، وَقَالَ صَالِحٌ، وَابْنُ أَبِي حَفْصَةَ، وَابْنُ مُجَمَّعٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: فَرَآنِي أَبُو لُبَابَةُ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ اهـ. مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ أَبِي عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ، وَالْأَبْتَرَ، فَإِنَّهُمَا يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلَّ حَيَّةٍ وَجَدَهَا. فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ يُطَارِدُ حَيَّةً فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ. ثُمَّ ذَكَرَهُ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وَفِي كُلِّهَا التَّصْرِيحُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ جِنَّانِ الْبُيُوتِ يَعْنِي إِلَّا بَعْدَ الْإِنْذَارِ ثَلَاثًا. وَعَنْ مَالِكٍ: يُقْتَلُ مَا وُجِدَ مِنْهَا بِالْمَسَاجِدِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ «وَذَا الطُّفْيَتَيْنِ» هُوَ بِضَمِّ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ. وَأَصْلُ الطُّفْيَةِ خُوصَةُ الْمُقَلِ وَهُوَ شَجَرُ الدَّوْمِ. وَقِيلَ: الْمُقَلُ ثَمَرُ شَجَرِ الدَّوْمِ. وَجَمْعُهَا طُفَى بِضَمٍّ فَفَتَحَ عَلَى الْقِيَاسِ. وَالْمُرَادُ بِالطُّفْيَتَيْنِ فِي الْحَدِيثِ: خَطَّانِ أَبْيَضَانِ. وَقِيلَ: أَسْوَدَانِ عَلَى ظَهْرِ الْحَيَّةِ الْمَذْكُورَةِ، يُشْبِهَانِ فِي صُورَتِهَا خُوصَ الْمُقَلِ الْمَذْكُورَ. وَالْأَبْتَرُ: قَصِيرُ الذَّنَبِ مِنَ الْحَيَّاتِ: وَقَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: هُوَ صِنْفٌ مِنَ الْحَيَّاتِ أَزْرَقٌ مَقْطُوعُ الذَّنَبِ، لَا تَنْظُرُ إِلَيْهِ حَامِلٌ إِلَّا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا. وَقَالَ الدَّاوُدِيُّ: هُوَ الْأَفْعَى الَّتِي تَكُونُ قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَكْثَرَ قَلِيلًا وَقَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: «يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ» مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَرْأَةَ الْحَامِلَ إِذَا نَظَرَتْ إِلَيْهِمَا وَخَافَتْ أَسْقَطَتْ جَنِينَهَا غَالِبًا. وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِسْقَاطَ الْحَبَلِ الْمَذْكُورَ خَاصِّيَّةٌ فِيهِمَا مِنْ سُمِّهِمَا. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى «يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ» أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ فِيهِمَا مِنْ شِدَّةٍ سُمِّهِمَا خَاصِّيَّةً يَخْطِفَانِ بِهَا الْبَصَرَ، وَيَطْمِسَانِهِ بِهَا بِمُجَرَّدِ نَظَرِهِمَا إِلَيْهِ. وَالْقَوْلُ: بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْبَصَرَ بِاللَّسْعِ، وَالنَّهْشِ ضَعِيفٌ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «اقْتُلُوا الْحَيَّاتِ» يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِهَا. لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ الْمُجَرَّدَةَ عَنِ الْقَرَائِنِ تَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ.وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِذَلِكَ الْقَتْلِ الْمَذْكُورِ لِلنَّدْبِ، وَالِاسْتِحْبَابِ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [20/ 123]، عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ الْأَظْهَرُ. فَالْمَعْنَى: أَنَّ بَعْضَ بَنِي آدَمَ عَدُوٌّ لِبَعْضِهِمْ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [6/ 65]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ. وَعَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ اهْبِطَا آدَمُ وَإِبْلِيسُ، فَالْمَعْنَى أَنَّ إِبْلِيسَ وَذُرِّيَّتَهُ أَعْدَاءٌ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [18/ 50]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ.وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ: مِنْ إِحْرَاقِ الْحَيَّةِ بِالنَّارِ لَمْ يَثْبُتْ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِعَذَابِ اللَّهِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُقْتَلَ بِالنَّارِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.فَإِنْ قِيلَ: الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَا الطُّفْيَتَيْنِ غَيْرَ الْأَبْتَرِ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيِّ الَّتِي قَدَّمْنَا عَنْ أَبِي لُبَابَةَ: «لَا تَقْتُلُوا الْجِنَّانَ إِلَّا كُلَّ أَبْتَرٍ ذِي طُفْيَتَيْنِ» يَقْتَضِي أَنَّهُمَا وَاحِدٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ابْنَ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ أَجَابَ عَنْ هَذَا. بِأَنَّ الرِّوَايَةَ الْمَذْكُورَةَ ظَاهِرُهَا اتِّحَادُهُمَا، وَلَكِنَّهَا لَا تَنْفِي الْمُغَايَرَةَ اهـ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِأَنَّهَا لَا تَنْفِي الْمُغَايَرَةَ: أَنَّ الْأَبْتَرَ وَإِنْ كَانَ ذَا طُفْيَتَيْنِ فَلَا يُنَافِي وُجُودَ ذِي طُفْيَتَيْنِ غَيْرَ الْأَبْتَرِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}.الظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِبَنِي آدَمَ. أَيْ: فَإِنْ يَأْتِكُمْ مِنِّي هُدًى أَيْ: رَسُولٌ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ، وَكِتَابٌ يَأْتِي بِهِ رَسُولٌ، فَمَنِ اتَّبَعَ مِنْكُمْ هُدَايَ أَيْ: مَنْ آمَنَ بِرُسُلِي وَصَدَّقَ بِكُتُبِي، وَامْتَثَلَ مَا أَمَرْتُ بِهِ، وَاجْتَنَبَ مَا نَهَيْتُ عَنْهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِي. فَإِنَّهُ لَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا، أَيْ: لَا يَزِيغُ عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ لِاسْتِمْسَاكِهِ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَامِلًا بِمَا يَسْتَوْجِبُ السَّعَادَةَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَطَاعَةِ رُسُلِهِ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا ذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ فِي الْبَقَرَةِ: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [الآية 38]، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَفِي هَذِهِ الْآيَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ بَعْدَ أَنْ أَخْرَجَ أَبَوَيْنَا مِنَ الْجَنَّةِ لَا يَرُدُّ إِلَيْهِمَا أَحَدًا مِنَّا إِلَّا بَعْدَ الِابْتِلَاءِ، وَالِامْتِحَانِ بِالتَّكَالِيفِ مِنَ الْأَوَامِرِ، وَالنَّوَاهِي، ثُمَّ يُطِيعُ اللَّهَ فِيمَا ابْتَلَاهُ بِهِ. كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَأَصْلُ الضَّنْكِ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، فَيَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ، وَالْمُؤَنَّثُ، وَالْمُفْرَدُ، وَالْجَمْعُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ مَعِيشَةً ضَنْكًا أَيْ: عَيْشًا ضَيِّقًا، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى.وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهَذَا الْعَيْشِ الضَّيِّقِ عَلَى أَقْوَالٍ مُتَقَارِبَةٍ، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا: أَنَّ الْأَوْلَى فِي مِثْلِ ذَلِكَ شُمُولَ الْآيَةِ لِجَمِيعِ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ. وَمِنَ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ مَعَ الدِّينِ التَّسْلِيمَ، وَالْقَنَاعَةَ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ، وَالرِّضَا بِقِسْمَتِهِ فَصَاحِبُهُ يُنْفِقُ مِمَّا رَزَقَهُ اللَّهُ بِسَمَاحٍ وَسُهُولَةٍ، فَيَعِيشُ عَيْشًا هَنِيئًا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} الْآيَةَ [16/ 97] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الْآيَةَ [11/ 3] كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ كُلِّهِ.وَأَمَّا الْمُعْرِضُ عَنِ الدِّينِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ الْحِرْصُ الَّذِي لَا يَزَالُ يَطْمَحُ بِهِ إِلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الدُّنْيَا مُسَلِّطٌ عَلَيْهِ الشُّحَّ الَّذِي يَقْبِضُ يَدَهُ عَنِ الْإِنْفَاقِ، فَعَيْشُهُ ضَنْكٌ، وَحَالُهُ مُظْلِمَةٌ. وَمِنَ الْكَفَرَةِ مَنْ ضَرَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ الذِّلَّةَ، وَالْمَسْكَنَةَ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ الْآيَاتِ} [2/ 61]. وَذَلِكَ مِنَ الْعَيْشِ الضَّنْكِ بِسَبَبِ الْإِعْرَاضِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ. وَبَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوا الْإِعْرَاضَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ فَأَطَاعُوهُ تَعَالَى أَنَّ عَيْشَهُمْ يَصِيرُ وَاسِعًا رَغْدًا لَا ضَنْكًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ} الْآيَةَ [5/ 66] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} الْآيَةَ [7/ 96] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ نُوحٍ: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [71/ 10- 12]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْ هُودٍ: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} الْآيَةَ [11/ 52]وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} الْآيَةَ [72/ 16- 17] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ: هِيَ طَعَامُ الضَّرِيعِ، وَالزَّقُّومِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذَلِكَ مَذْكُورٌ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} الْآيَةَ [88/ 6] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} الْآيَةَ [44/ 43- 44] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ: الْكَسْبُ الْحَرَامُ، وَالْعَمَلُ السَّيِّئُ. وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ: الْمَعِيشَةُ الضَّنْكُ: عَذَابُ الْقَبْرِ وَضَغْطَتُهُ. وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [14/ 27]،.قَالَ مُقَيِّدُهُ- عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ-: قَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ الْمَعِيشَةَ الضَّنْكَ فِي الْآيَةِ: عَذَابُ الْقَبْرِ. وَبَعْضُ طُرُقِهِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ شُمُولُ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ لِمَعِيشَتِهِ فِي الدُّنْيَا. وَطَعَامِ الضَّرِيعِ، وَالزَّقُّومِ. فَتَكُونُ مَعِيشَتَهُ ضَنْكًا فِي الدُّنْيَا، وَالْبَرْزَخِ، وَالْآخِرَةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}.ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ يَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي حَالِ كَوْنِهِ أَعْمَى. قَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَبُو صَالِحٍ، وَالسُّدِّيُّ: أَعْمَى أَيْ: لَا حُجَّةَ لَهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَمِيَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا جَهَنَّمَ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ: أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا، وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةً تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَرِينَةً دَالَّةً عَلَى خِلَافِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَأَبِي صَالِحٍ، وَعِكْرِمَةَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ أَعْمَى أَيْ: أَعْمَى الْبَصَرِ لَا يَرَى شَيْئًا. وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} [20/ 125]، فَصَرَّحَ بِأَنَّ عَمَاهُ هُوَ الْعَمَى الْمُقَابِلُ لِلْبَصَرِ وَهُوَ بَصَرُ الْعَيْنِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى الْقَلْبِ كَمَا دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَدْ زَادَ جَلَّ وَعَلَا فِي سُورَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ الْعَمَى يُحْشَرُ أَصَمَّ أَبْكَمَ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [17/ 97].تَنْبِيهٌ:فِي آيَةِ طه هَذِهِ وَآيَةِ الْإِسْرَاءِ الْمَذْكُورَتَيْنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قَدْ دَلَّتَا عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ يُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى، وَزَادَتْ آيَةُ الْإِسْرَاءِ أَنَّهُ يُحْشَرُ أَبْكَمَ أَصَمَّ أَيْضًا، مَعَ أَنَّهُ دَلَّتْ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُبْصِرُونَ وَيَسْمَعُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا} الْآيَةَ [19/ 38] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} الْآيَةَ [18/ 53] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} الْآيَةَ [32/ 12] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِنَا دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ الْجَوَابَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: وَاسْتَظْهَرَهُ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا ذُكِرَ مِنَ الْعَمَى، وَالصَّمَمِ، وَالْبَكَمِ حَقِيقَتُهُ. وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَبْدَأِ الْأَمْرِ ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْهِمْ أَبْصَارَهُمْ وَنُطْقَهُمْ وَسَمْعَهُمْ فَيَرَوْنَ النَّارَ وَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا، وَيَنْطِقُونَ بِمَا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ شَيْئًا يَسُرُّهُمْ، وَلَا يَسْمَعُونَ كَذَلِكَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِحُجَّةٍ، كَمَا أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا لَا يَسْتَبْصِرُونَ، وَلَا يَنْطِقُونَ بِالْحَقِّ، وَلَا يَسْمَعُونَهُ. وَأَخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ الْحَسْنِ كَمَا ذَكَرَهُ الْأَلُوسِيُّ، وَغَيْرُهُ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَدْ نَزَلَ مَا يَقُولُونَهُ وَيَسْمَعُونَهُ وَيُبْصِرُونَهُ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ. كَمَا أَوْضَحْنَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ لَا شَيْءَ عَلَى مَا لَا نَفْعَ فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي الْمُنَافِقِينَ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} الْآيَةَ [2/ 18] مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ فِيهِمْ: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [33/ 19]، وَيَقُولُ فِيهِمْ: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [63/ 4]، أَيْ: لِفَصَاحَتِهِمْ وَحَلَاوَةِ أَلْسِنَتِهِمْ. وَيَقُولُ فِيهِمْ: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [2/ 20]، وَمَا ذَلِكَ إِلَّا لِأَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ كَلَا شَيْءٍ: فَيَصْدُقُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَعْمَى وَأَصَمُّ وَأَبْكَمُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَعْنَبِ بْنِ أُمِّ صَاحِبٍ: وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَقَوْلُ الْآخَرِ: وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مِنْ إِطْلَاقِ الصَّمَمِ عَلَى السَّمَاعِ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ الَّذِي لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَالرُّؤْيَةُ الَّتِي لَا فَائِدَةَ فِيهَا.الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ إِذَا قَالَ لَهُمْ: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} [23/ 108] وَقَعَ بِهِمْ ذَلِكَ الْعَمَى، وَالصَّمَمُ، وَالْبَكَمُ مِنْ شِدَّةِ الْكَرْبِ، وَالْيَأْسِ مِنَ الْفَرَجِ، قَالَ تَعَالَى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ} [27/ 85]، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ الْأَحْوَالُ الْخَمْسَةُ مُقَدَّرَةً، أَعْنِي قَوْلَهُ فِي طه: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [20/ 125]، وَقَوْلُهُ فِيهَا: لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَوْلُهُ فِي الْإِسْرَاءِ: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [17/ 97]، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: {فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [20/ 126] مِنَ النِّسْيَانِ بِمَعْنَى التَّرْكِ عَمْدًا كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [20/ 115].
|